الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية في دراسة: قراءة في الاصلاح التربوي.. من المسعدي إلى جلول

نشر في  28 سبتمبر 2016  (12:48)

فكرة الإصلاح التربوي عموما و إصلاح المنظومة التربوية خاصة مسار بين واضح في تاريخ تونس الحديث و المعاصر في مرحلتي ما قبل الاستقلال و ما بعده فقد شهدت البلاد التونسية قبل الاستقلال و بناء الدولة التونسية الحديثة محاولات إصلاحية عديدة منها الإصلاحات المرحلية التعديلية و منها الهيكلية التي استهدفت المؤسسة التربوية و أداءها البيداغوجي،فأنت تلاحظ بيسر بوادر التجديد و التطوير في جملة من المبادرات منذ القرن التاسع عشر حين اهتم المصلحون بالتربية و التعليم اهتماما سيمهد لاحقا لجملة من الإصلاحات الكبرى مع شخصيات و مشاريع تونسية كمحاولات إصلاح التعليم و تجديده مع أحمد باشا باي ( 1837ـ 1855) الذي أسس المدرسة الحربية بباردو عام 1840 و خير الدين التونسي الذي جعل من المدرسة الصادقية سندا لتحديث التعليم الديني حتى يكون عصريا مواكبا لما طرأ من نماء و "نهضة" على المستوى الأوروبي خاصة .بل إنك لتقف عند مقاربات نظرية و فكرية و أخرى هي أقرب إلى ورقات عمل فنية و إجرائية تستهدف "المنظومة التربوية " و تعاضد مجهود الإصلاح أو تمهد له بمقاربات تضمنتها كتابات لرواد تونسيين مثل آراء بن خلدون في مقدمته حول التعليم: منزلته وإشكالياته و سبل تطويره من حيث البرامج و المناهج و المقاصد و قد أفردابن خلدون بابا خاصّا (الفصل السادس) من مقدّمته لقضايا التربية والتعليم وكان أكبر باب في الكتاب وهو ما يدّل على الأهميّة التي يوليها لموضوع التربية. يقول بن خلدون في سياق حديثه عن البرامج التعليمية و مهارات المتعلم " فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون و عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة " ( ابن خلدون , المقدمة , دار الجيل , بيروت ص 478\479) ،وملاحظات الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في "أليس الصبح بقريب؟" و منها اعتبار مجال التربية أحد أدوات نهضة الشعوب و نمائها يقول" إذن كان واجبا علينا خدمة للأمة و تهيئة للنشأة العلمية التي تزين مستقبلنا و تجمل ماضينا أن ندخل تلك المجاهل , نرفع بإحدى يدينا مشاعل النور و نقطع بالأخرى ما يمانع من حجرات العثور , فإن لم نصل بعد إلى غاياتها فعسى أن لا نبعد "( الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – مقدمة أليس الصبح بقريب ).
إلى ذلك ساهمت تساؤلات الطاهر الحداد في مواضع عديدة في تبين إشكاليات الواقع التونسي الفكرية و الاجتماعية .

1. إصلاحات محمود المسعدي : من مواجهة الاستعمار إلى إرساء الهوية التونسية :

استهلت الدولة التونسية الإصلاحات بإشراف محمود المسعدي كاتب الدولة للتربية القومية و الشباب و الرياضة في 1958\1959 وقد سعت (بتوصيات و إرادة سياسية بورقيبية واضحة ومعروفة " إلى تجاوز هنات برامج التعليم عموما في مرحلتيه الابتدائية و الثانوية و جعله قريبا من المواطن التونسي حيث كان يقول الحبيب بورقيبة "..يجب ان يكيف التعلم بما يمكننا من ملاحقة ركب الحضارة و تدارك ما فاتنا من مراحل , و نحن عازمون على ذلك مهما كانت التكاليف و الاعتراف بالواقع مدعاة لتهيئة الأسباب لتغييره .."( من بيان الحبيب بورقيبة الأسبوعي 25جوان 1985) و قد كان من توجهات إصلاحات 1958 الكبرى ك
ـ تعميم التعليم و ضمان حق تكافؤ الفرص ليكون البرنامج شاملا جامعا لكل التونسيين يقع في إطاره تزكية الشخصية و تنمية المواهب الطبيعية عند جميع الأطفال ذكورا و إناثا " دون أي تمييز بينهم لاعتبار جنسي أو ديني أو اجتماعي ".
ـ تعليم يوازي في مرحلته الثانوية بين حاجيات المجموعة الوطنية الشغلية والتقنية والاقتصادية من ناحية و ميولات المتعلم و " أحلامه " من ناحية أخرى.
ـ إعداد الطفل للقيام بدوره كمواطن و إنسان حتي يكون من الكفاءات المساهمة في "نمو النشاط القومي"
ـ و قد قام الإصلاح التربوي حينئذ على مبادئ عامة لعل من أهمها ضرورة تجديد التربية و التعليم بما يواكب العصر وتحولاته إقليميا , يقول بورقيبة : " أنتم تعلمون قيمة المدرسة الصادقية و تأثيرها في النهضة التونسية الحديثة ..فهي الحجر الأساسي في الثقافة القومية العصرية .."( خطابه في المدرسة الصادقية , 25 جوان 1958)
ـ اعتبرت إصلاحات المسعدي أن للمدرسة التي تسعى الدولة التونسية إلى إنشائها رسائل أخلاقية و وطنية تجذر الهوية المحلية في وجدان روادها فضلا عن وظيفتها التربوية التكوينية لذلك انكب المشرفون على الشأن التربوي على إعداد مدارس تكوينية و خبرات لتعليم اللغة العربية و التعريف بتونس تاريخا و سمات ثقافية و حضارية قصد إرساء نموذج موحد يؤسس لهوية جديدة هي "الهوية التونسية". فكل ما أنجز إلى يومنا هذا وما سيتمّ إنجازه في المستقبل من البرامج التي أقرّها الإصلاح والتخطيط يدخل في نطاق المعركة الكبرى التي تخوض غمارها الأمة بهدي من قادتها سعيا وراء القضاء على التخلّف وإبراز الشخصيّة التّونسيّة في مختلف ميادين الفكر والعمل. " (تقرير كتابة الدولة للتربية القومية 1963ص 6)

2. إصلاحات محمد الشرفي : من الهوية الوطنية إلى الهوية الكونية :

خلاصة الإصلاح الذي أنجز أواخر الثمانينات من القرن العشرين تضمنتها وثيقة القانون عدد 63 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 ومن مبادئه العامة وأهدافه " تمكين الناشئة منذ حداثة عهدها بالحياة بما يجب أن تتعلمه حتى يترسخ فيها الوعي بالهوية الوطنية التونسية و ينمو لديها الحس المدني و الشعور بالانتماء الحضاري وطنيا و مغاربيا و عربيا و إسلاميا و يتدعم عندها التفتح على الحداثة و الحضارة الإنسانية مع تربية الناشئة على الوفاء لتونس و الولاء لها" .
و قد كانت من أهم إجراءاته :
ـ إرساء التعليم الأساسي .
ـ تعريب و تدريس المواد العلمية في الابتدائي و الثانوي .
ـ بث قيم التربية على حقوق الإنسان والحقوق المدنية فسميت مادة التربية الوطنية باسم مادة التربية المدنية و فصلت عن مادة التربية الإسلامية .
ـ إنشاء إطارات التدريس و التفقد البيداغوجي و تكوينه.
يذكر أن إصلاحات أخرى ستنجز مع منصر الرويسي سينص عليها لاحقا القانون عدد 80- 2002 المؤرخ في 23جويلية و هو القانون المعروف باسم " القانون التوجيهي للتربية و التعليم المدرسي

3. الإصلاح التربوي مع ناجي جلول : من الحدث و التحديث إلى المشروع الحداثي

للمحاولتين الإصلاحيتين المذكورتين (إصلاحات محمود المسعدي ومحمد الشرفي) عدة مكاسب و إنجازات ساهمت في تطوير المؤسسة التربوية, إلا أن ذلك لا يمكن ان يحجب عن الناظر في المشهد التربوي إشكاليات جعلت من إطلاق مشروع إصلاح تربوي جديد أمرا ملحا و قبل أن نورد ما به صار الإصلاح التربوي الحالي شكلا من اشكال الفعل الفكري والحداثي نقدم بعض الملاحظات حول حدود المشروعين الإصلاحيين السابقين و مواطن الخلل فيهما حتى تتضح أهمية إطلاق الحوار الوطني حول الإصلاح التربوي الذي دعت إليه وزارة التربية بإشراف الدكتور ناجي جلول .
• حداثة المشروع الإصلاحي تبدو في هذا الجمع اللطيف الجريء بين الجانب النظري الفكري الذي يبدو في خلاصات توضح مبادئ الإصلاح و مرجعياته و سياقاته من جهة و الجانب الإجرائي العملي الذي تطالعه بوضوح في وثائق إصلاح المنظومة التربوية كالكتاب الأبيض و ملامح الخطة التنفيذية لإصلاح المنظومة التربوية 2016-2020 و فيه عرض مفصل للتوجهات الكبرى و هي :
- مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص.
- مراجعة الخارطة المدرسية.
- تطوير كفايات الموارد البشرية.
- تطوير مكتسبات المتعلمين وتجويد تعلماتهم.
- تطوير الحياة المدرسية.
- إعادة هيكلة التعليم الإعدادي والثانوي.
- التصدي للفشل المدرسي.
- تطوير توظيف تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعليم والتعلم.
- تكريس مبادئ الحوكمة الرشيدة صلب المنظومة التربوية
فمشروع الإصلاح وعد منذ البداية بالتغيير السريع الناجع وفق مقاربة غير متسرعة و " خارطة طريق تستند إلى العقلانية و تستنير بالطموح و الحلم " تأصيلا للكيان و تحديثا معقلنا و تعصيرا منشودا "( الكتاب الأبيض ص9) يسعى إلى رفع تحديات الإنصاف و الجودة و اندماج المدرسة في الاقتصاد و المجتمع والحوكمة و غيرها من المسائل التي ستغير من ملامح المدرسة التونسية بداية من السنة الدراسية 2016-2017 في مسار تدريجي عقلاني يشد مشروع الإصلاح إلى الواقع في غير استسلام أو تردد مما يجعل الفكرة " حداثية" أ ليس العقلانية و الموضوعية من مستلزمات الحداثة و مرادفاتها.
خاتمة :
إن من أهم مفردات هذا التوجه الإصلاحي تحت إشراف الدكتور ناجي جلول هي " الحداثة" فكرة و منهجا و مشروعا , فقد قام إصلاح المنظومة التربوية على مبادئ و منطلقات أساسية و تخلى في مقابل ذلك عما يعيقه أو يربك سيرورته فحرص المسار الإصلاحي على التواصل مع الماضي و الرصيد التربوي التونسي و جمع إلى الحوار الوطني شركاءه دون إقصاء لأي طرف أو هيكل أو مؤسسة فاستفاد من تجارب محلية و إقليمية و دولية سابقة او راهنة دون انبهار بالغربي الوافد أو استكانة لمحلي أصيل فينا و في هويتنا .
الإصلاح التربوي جسد "حدثا وطنيا" مع محمود المسعدي و محمد الشرفي إذ انخرطت المدرسة التونسية في صراع الهوية و المرحلة البناء , أما الإصلاح التربوي مع ناجي جلول فقد ورد"كتاب حداثة" و مشروع " إصلاح" " جمع التونسيين على مقاربة متينة ببعدها العلمي و استراتيجيتها و أدواتها , حالمة بتحقيق استحقاقات الثورة التونسية ساعية إلى أن تكون تجسيدا حداثيا لنص الدستور التونسي و مبادئه العامة , الإصلاح التربوي اعتبره الدكتور ناجي جلول في خطاباته (الرسمية و الإعلامية و على صفحات ما نشر من مؤلفات الإصلاح التربوي ) "ثمرة رؤية مشتركة بين كافة الفاعلين في التربية و المستفيدين منها" ( الكتاب الأبيض ص 8) ..لما فيه خير التربية و الوطن " ( الكتاب الأبيض ص 168).