أخبار وطنية هذا هو نص "الوداع" الذي كتبه الشاعر الكبير ولاد حمد قبل أسبوع من وفاته في مسرحية "دراما"

كتب الشاعر الكبير ولاد حمد مؤخرا نصا فنيا إبداعيا جاء تقديما لمسرحية الاعلامي المنصف بن مراد بعنوان "دراما"، حيث كتبه بالمستشفى العسكري بالعاصمة واختار ان يكون عنوانه "مع الحياة والجمال ضد ذئبية البشر".
موقع الجمهورية ينشر لكم ما جاء في هذا النص المؤثر الذي كان بمثابة نص وداع نظرا للعبارات المؤثرة التي تضمنته فكأنه كان يتنبّأ بقرب موته لحديثه عن الموت وفناء الجسد والدود فيه..
"درامـــــــــــا
مع الحياة والجمال ضدّ ذئبية البشر..
بقلم: محمد الصغير أولاد أحمد
المستشفى العسكري بتونس ـ 15 مارس 2016
«يبدو أن هناك شيئا متعفنا في المملكة»... صيْحةٌ طالما تردّدت في قصور الطغاة وهم يرون عروشهم تتهاوى ورؤوسهم مطلوبة جزاءً وفاقا لما زرعوه من عفونة سقوها بما تيسّر من كراهية وحقد وما سفحوا من دماء واستباحوا من أعراض..صيحة تؤكّد كلّ مرّة تماهي الحكّام مع الآلهة وشعورهم بأنّ وجودهم ـ في ذاته ـ منّة على الخلق وأنّه على الشعوب أن تظهر الولاء والطاعة ولو أوذيت في القلوب والأرواح والأحلام فضلا عن الأرزاق والأجساد..
في النصّ الذي أمامنا صدرت الصّيحة عن أمّ السلطان، واسمها «سكيزوفرينيا»..ولم يكن اختيار الكاتب اعتباطا: فهل يمكن لغير العُصابيّ مزدوج الشخصية أن يقدّم للناس العفن وهو يسمّيه زهورا ويهدي لهم الخراب على أنّه إنقاذ وبناء؟؟
العفنُ..الدّود..الطاعون.. تعدّدت الأسماء والخراب واحدٌ أحدٌ.. أيّ خرابٍ أشدُّ تخريبا من ذاك الخرابِ الذي يأتيك متسربلا بالمقدّس مطليّا بكلامٍ متعالٍ ومتأبّطا شرّا ملفوفا بأغمدة ينتقش فيها اسم اللهِ الرّحيمِ السّلامِ المؤمنِ المهيمن؟؟
وأيُّ طاعونٍ أشدُّ فتكا من الطاعون الّذي يزعم أنّه بلسمٌ لجراحك، وأنّ خلاصك في تحريق المكتبات والمتاحف وتغليق العقول وتحريم كلّ إبداعٍ..
طاعون عدوّه الأوّل هو الجمال، ومجال تفكيره هو استنباط وسائل التنكيل، ودليل انتصاره إذلال الإنسان عامّة والمرأة خاصّة بتلخيص وجودها في توفير اللذّة وتأمين التناسل والويل لها إن حاولت فكرا أو إبداعا..
عندما وقفت عند عتبات النص تساءلتُ: أعرف عن كاتبه محمّد منصف بن مراد ولعه بالمسرح من باب الهواية، وأنّه في مسرح الحياة العامّة في تونس من الفاعلين المميّزين باعتباره إعلاميّا صمد قلمه فنال تجاهلا وظلّت صحيفته ممنوعة من الإشهار طيلة سنوات الدكتاتورية، فدفع ما ينبغي على أصحاب المبادئ أن يدفعوه دونما ضجّة ولا ادّعاء ولا بحث عن التوظيف..فكيف سيكون هذا النصّ وهو إلى مسرح الأخشاب يمتّ لا إلى مسرح السياسة ومهنة الأتعاب؟
لكن فوجئت واستمتعت.. أبطال هذا النصّ دودٌ نراه اليوم في «تدمر» الشهيدة وفي الأطلال الحديثة لمدن عتيقة من حمص إلى حلب، ومن الرقّة إلى الموصل، ومن بنغازي إلى صبراطة مرورا بسيرت...ونرى هذا الدّود متطلّعا إلى حدودنا متربّصا بنا باحثا عن غفوة أو غفلة رغم الصفعة التي تلقّاها في «بن قردان» الصامدة، ورغم ما لنا من مناعة كسبناها من تاريخ انتفاضاتنا وثوراتنا، وما أسّسنا له من تعميم للتعليم ـ لا بدّ من تطويره ـ وتحصين للمرأة في تشريعاتنا وفي حياتنا اليوميّة، وضمان للمواطنة في دستورنا..
دودٌ لا يعنينا كثيرا إن جاءنا باسم «الخليفة أبي بكر» و«الأمير أبي عياض» أو باسم «السلطان تاناتوس» و»السلطانة سكيزوفرينيا» و»الإمام ديليرو»...فالعفنُ هو العفَنُ والدّودُ هو الدّودُ..
محمد المنصف بن مراد في هذا النص لا يكتفي بكشف ما في الدود من عفن، ولا يتوقف عند ما في باطن هذا الطاعون من عوامل فنائه، بل يستشرف ما قد يعفِّنُه فينا قبل انقراضه المحتوم..فالمغول قبل انحدارهم انتصروا في عديد المعارك واغتصبوا بلدانا وأحرقوا مكتبات وأسالوا دماء بلا حدود..
يمكن لقارئ هذا النص أن يدرك ـ في يسر ـ من وراء الأقنعة التي ألبسها بن مراد لشخوصه: «تاناتوس» الحاكم الّذي يحكم باسم الإله حكما يستنفر في الشياطين الشفقة على مصير الإنس، «سكيزوفرينيا» السلطانة التي تزيّن لابنها كره النساء واعتبارهنّ مجرّد أداة للمتعة.. «نفروز» قائد الجند الذي يحسده «هولاكو» نفسه على إبداعه في التعذيب والاستهتار ببشرية البشر..»ديليرو» رجل الدين الّذي يهذي ليزيّن الفسق لسادته ويفتي لهم بهواهم ولا يتمثّل الدين إلا أداة للحكم.. هم أمراض مستعصية لا مجرّد شخوص..أمّا «مكيافيلي» و«مكيافيلا» ـ وهما في المسرحية الوزير الأكبر وحارسة النساء ـ فإنهما لا يحيلان فقط إلى الانتهازية والوصولية، بل يذهبان بهما إلى حدّ الولع والشغف المَرَضِييْن..
أمّا الأمل في التعافي من هذا السّرطان فهو استعصاء مدينة اسمها «ليبرتاديس»، وهو اسم/رمز، وقد صمدت بفضل ما لها من مناعة يجسّدها الفيلسوف/ السجين العصيّ على الرشوة والأنانية، ويجسّدها المهرّج/الفنّان «قتوزو» والحسناء «عائشة» التي لا تقبل بـ«نكاح الجهاد» إلا لربح الوقت مع المهرّج الفنان للقضاء على الدود الذي سرى في الأرض مهدّدا بفناء كل ما هو جميل وخصب فيها..
نصّ ملغّم بالرموز، إلى العصر، وإلى المكان، وإلى الشخوص والمصائر، وإلى الأمراض المستعصية ممّا حتّم نهاية مأساوية بتسميم أعداء الفرح والجمال، أعداء الفنّ والحبّ والإبداع..نهاية دمويّة يمهّد لها الكاتب بإظهار أنّها نهاية مستحَقّة لأنّه لا سبيل دونها للتخلّص ممّا استعصى من الأمراض، إنقاذا للبشرية وإنقاذا للإنسان من «أخيه» الإنسان المستذئب".