الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة فيلم "عايشة" لمهدي البرصاوي رحلة الحريّة والعدالة وأزمة الهويّة في مجتمع ينخره الفساد

نشر في  16 ديسمبر 2024  (19:50)

"لأننا نحب الحياة، نذهب إلى السينما"، ولأن جمهور أيام قرطاج السينمائية جمهور استثنائي، فمن الطبيعي أن يتحول بأعداد غفيرة ومنذ الساعات الأولى من صباح يوم الأحد 15 ديسمبر 2024 الى مدينة الثقافة الشاذلي القليبي لمتابعة أفلام اليوم الأول من فعاليات الدورة الخامسة والثلاثين، ومن بين الأفلام التي تم عرضها "فيلم" عايشة" للمخرج التونسي مهدي برصاوي الذي يندرج ضمن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية.

تدور أحداث فيلم "عايشة" حول "آية" فتاة في أواخر العقد الثاني من العمر تعيش مع والديها في توزر بالجنوب التونسي،  ونظرا لظروف عائلتها المادية  وقصد مساعدة والديها عل خلاص ديونهما تضطّر للانقطاع عن الدراسة في سن الرابعة عشر والعمل في نزل، تمر السنوات بروتينية وملل وخصاصة وفي الأثناء ترتبط عائشة عاطفيا بمديرها المتزوج الذي يستغلها ويخلّ بكل وعوده لها، تبحث آية عن طريقة للتخلص من هذا الماضي وتتأزم الأوضاع أكثر بفرض عائلتها زواجها من رجل يكبرها سنا، وسط كل هذه الأحداث تتعرض آية الى حادث حيث تنقلب بها سيارة العمل رفقة زملائها بالفندق وبأعجوبة تكون هي الناجية الوحيدة من هذا الحادث،  لكن السلطات تعلن عن وفاة جميع ركاب السيارة ومن بينهم آية، التي تستغل هذا الحادث وتقرر التخلص من حياتها القديمة وبدء حياة جديدة بالعاصمة بشخصية جديدة واسم جديد وتتخلص من سلطة العائلة والمجتمع التي كبلتها طيلة سنوات، قرار سيغيّر حياة آية ومجرى أحداث الفيلم التي تتصاعد بطريقة فيها الكثير من الحبكة والتسلسل .. تتحول آية في عالمها الجديد الى "أميرة" وبعد رحلة بحث مرهقة عن سكن خاصة أنها دون هوية تجد غرفة للسكن رفقة فتاة تدعى "لبنى" ( ياسمين الديماسي) .. تؤثر هذه الفتاة على آية لتجد هذه الأخيرة نفسها متورطة في عالم الليل المثير والملاهي الليلية لينتهي بها المطاف متورطة في قضية قتل .

في "عايشة" سلط المخرج الضوء على عالمين متناقضين بين الطبيعة الصحراوية القاسية في توزر فرغم جمالها تخفي عزلة وقيود اجتماعية على الشخصية، وبين تونس العاصمة بما تمثله من تحرّر من جهة وفوضى وفساد من جهة أخرى  .

"عايشة" هورحلة شابة تونسية، يحاكي من خلالها مهدي البرصاوي عدّة ظواهر اجتماعية، حيث تنتقل كاميرا البرصاوي بين شخصيات فيلمه لتكشف لنا أغوار هذه الشخصيات ومنها يسلط الضوء على قضايا محورية في مجتمعنا التونسي لعل أهمها الفساد الذي لم ينخر المجتمع فقط بل وكل المجالات منها تغوّل رجال الأعمال والفساد الأمني كالتستر على قضايا القتل وتزوير الهوايات ..

جملة من القضايا قدمها مهدي البرصاوي من خلال رؤية جريئة وواقعية في الطرح

فيلم لم يخل من جرعات سياسية، حيث يبرز محاولة السلطة غضّ البصر عن عدّة تجاوزات وإخلالات وعالم مليء بالفساد والمحسوبية والمخدرات والتحرّش والابتزاز ونقصد هنا عالم الليل والملاهي الليلية وما يحدث فيها وكيف تطمس السلطة عديد الحقائق مقابل تلميع صورتها .

"عايشة" يأخذ المشاهد ويعود به في لحظات إلى قصّة حقيقية والى قضية كانت قد هزت الرأي العام في نوفمبر 2019، وهي قضية قتل الشاب آدم بوليفة في أحد الملاهي بشارع محمد الخامس بعد شجار مع أعوان حراسة أثناء احتفاله بعيد ميلاده مما أدى الى سقوطه بالمصعد ووفاته على عين المكان، ففي الفيلم يروي لنا مهدي البرصاوي بأسلوب غير مباشر وبكثير من الواقعية قصة الشاب كريم بوقطفة الذي قتل على يد أعوان الحراسة وعوني أمن بمعية رجل الأعمال رفيق الصباغ ( يجسد الشخصية محمد علي بن جمعة)، وكيف تم ابتزاز الفتاة آية وإجبارها على تزوير شهادتها واتهام القتيل بالتحرّش بها ونظرا لتورط أعوان أمن في هذه القضية تتحول من قضية قتل الى سقوط الضحية ووفاته .

ولئن كشف البرصاوي عن الفساد والتجاوزات التي تحاك في أروقة وزارة الداخلية، بيّن في المقابل شخصية الأمني الذي يبحث عن الحقيقة لولا الإكراهات والإملاءات الفوقية وهو ما جسده نضال السعدي من خلال شخصية عون الأمن فارس الذي اضطر الى إعدام كل الأدلة من أجل طمس الحقيقة بعد تلقيه أوامر فوقية من رئيسته في العمل ( سوسن معالج) .

123 دقيقة يعجز فيها الملل على التسلل إلى المشاهد، حيث يسرد البرصاوي أحداث فيلمه بكل حرفية وتسلسل دقيق، كما ينجح في خلق مشاعر متقلبة ومتناقضة في المتلقى بين التعاطف تارة والرغبة في الانتقام أخرى ، فهل آية أو أميرة هي المرأة المضطهدة من العائلة والمجتمع والسلطة أم هي المرأة المتحررة والمترمدة على نواميس وعادات المجتمع؟  وهل فارس هو عون الأمن النزيه أم هو من ساهم في تزييف الحقائق وضياع الحق؟  وهل الإشكال الحقيقي يكمن في فقدان الهوية بما تمثله من بطاقات ومعلومات شخصية أم ضياع الهوية كمواطن له حقوق ؟

يحاول ضابط الشرطة فارس الوصول إلى الحقيقة، ورغم محاولات آية اخفاءها عنه لكنها تكشف له في الأخير أنها في حكم المتوفاة وأنه لا يمكن مقاضاتها، ليقررا في النهاية اظهار الحق ويقوما بتسليم عائلة الضحية كل أدلّة براءته، ثم تقرر آية أن تكمل حياتها بهوية جديدة وبإسم جديد "عايشة" فرغم كل ما مرت به تقرر العيش والهروب والتحرّر من ماضيها بما يحمله من انكسارات .

خيّر مهدي البرصاوي في "عايشة" أن تنتصر الحقيقة وإرادة الشعب على "السيستام" وتعلو كلمة الحق، وأن تنتصر الصداقة الحقيقية على الصداقة المزيّفة والمبنية على المصلحة من خلال قصة آية ولبنى الفتاة الاستغلالية من جهة وقصة آية وصاحب محل المرطبات (هالة عياد) التي كانت بمثابة المنقذ للبطلة، وأن ينتصر الضمير الانساني على المهني من خلال ضابط الشرطة فارس.

رغم كل الفساد يُنهي الفيلم أحداثه بانتصار العدالة وإدانة القتلة من الأمنيين مما أعاد شيئا من الثقة المفقودة في قدرة النظام على محاسبة الفاسدين .

"عايشة" هو رؤية واقعية لتونس بعد ثورة 14 جانفي، تونس التي لم تتمكن بعد من اجتثاث الفساد الذي ينخر كل أجهزتها وكل المجالات .

 فيلم "عايشة " ـ 123 دقيقة ـ فيلم روائي طويل من إنتاج سنة 2023،  يشارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الخامسة والثلاثين ، تحصل مؤخرا على جائزة أفضل فيلم متوسطي في مهرجان البندقية السينمائي، كما تحصل على جائزة أحسن فيلم عالمي بالأرجنتين،  وهو الفيلم الثاني لمهدي برصاوي بعد فيلمه « بيك نعيش » الذي فاز بجائزتين في الدورة 76 من المهرجان سنة 2019.

ويحظى هذا العمل بمشاركة دولية في الإنتاج، حيث يشارك في إنتاجه جهات من تونس (سيني تيلي فيلمز)، فرنسا، إيطاليا، السعودية، وقطر، بطولة فاطمة صفر، ونضال سعدي، وياسمين ديماسي، وهالة عايد ومحمد علي بن جمعة وسوسن معالج وبحري الرحالي .

الفيلم سيكون في قاعات السينما رسميا بداية من يوم 22 جانفي 2025.

 ونذكر أن السينما التونسية تشارك بأربعة أفلام روائية طويلة في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية وهي "عايشة" لمهدي البرصاوي و"ماء العين" للمريم جعبر و"الذراري الحمر" للطفي عاشور و"برج الرومي" للمنصف ذويب .

 سناء الماجري