ثقافة وثائقي "نرجعلك" لياسين الرديسي: حلق الوادي جنة خرج منها هنري تيبي دون حواء
يُلقي بك فيلم "نرجعلك" لياسين الرديسي دون سابق إنذار فوق رمال شاطئ حلق الوادي الذهبية حيث يتكدس المصطافون من كل حدب وصوب لتجد نفسك، بفعل سحر السينما وقدرتها على تخطي حدود الزمان، تعود الى الوراء الى حلق الوادي في الخمسينات والستينات…
تحت إحدى المظلات الشمسية وبين أصوات بائعي عباد الشمس والفطائر وغيرها من أسباب سعادة المصطافين يرتفع صوت الفنان التونسي ذو الديانة اليهودية هنري تيبي من أحد المقاهي يغني تونس خضرائي وهو يجمع حقيبته ويقول أنه يجمع ما تبقى له من الشجاعة حتى يغادر تونس حاملا معه البوما من الحجم الثقيل يحتوي صورا وكتابات ومعلقات في حالة يبدع سميح القاسم في وصفها قائلا "أشد من الماء حزنا ."
هنري تيبي هو الشخصية المحورية للفيلم الوثائقي "نرجعلك " لياسين الرديسي و هو ذلك البوهيمي الذي اختار أن يكون وحيدا بلا أسرة وفي حل من كل إرتباط حتى ولو كان ذلك الارتباط مهنيا .. هنري التيبي عاش متنقلا بين شوارع حلق الوادي التي لم يكن يقطنها بل كان يتنقل يوميا عبر القطار قادما من اللامكان وهذه نقطة أخرى غامضة في حياة التيبي إذ لم يكن أحد يعرف أين يقيم هذا البوهيمي وهنا تكمن صعوبة إنجاز هذا الوثائقي.
استغرقت رحلة إعداد الوثائقي "نرجعلك " قرابة سبع سنوات قضاها المخرج ياسين الرديسي بين البحث والتصوير وتنفيذ الإنتاج معتمدا على السجل الموسيقي لهنري التيبي الذي كان حلقة الربط بين مختلف المحاور ومنطلقا للانتقال من محطة إلى أخرى في حياة شخصيته المحورية كأن تنتقل بنا اغنية "آه ياربي يا طيب عاوني شوية" الى أشد مراحل حزن الفنان لما غادر تونس في الستينات مستقرا في باريس منعزلا عن بيئته وعن رفاقه .
خطان متوازيان ولكنها يلتقيان
سردية متوازية بين تصوير الفيلم وتقصي الحكاية بين المخرج وصديقه العازف والفنان سليم بن عمار وبين الحكاية الأصلية لهنري تيبي ورفاقه لتلتقي الحكايات وتجتمع متفرقة بين تونس وفرنسا بين حلق الوادي و بلدة Baume les Dames ببيزونسون الفرنسية حيث تغير أشعة الشمس ودفئها كل المعادلات في المكانين فكل المشاهد المصورة في فرنسا يبدو فيها الطقس كئيبا ممطرا وخاليا من كل دفء كقلب هنري تيبي بعد أن استقر في باريس و اقتلع من جذوره في المقابل تبدو الصور القادمة من تونس ملأى بالحركية والحكايات التي يرويها رفاقه سواء في احد مطاعم حلق الوادي أو تحت شمس ساطعة الضوء تنشر الأدرينالين في كل الارجاء.
بخلطة عجيبة تجمع بين الماضي والحاضر في حركة مد وجزر محكمة تصور كاميرا الرديسي سعي المخرج وصديقه سليم الفنان الى مراكمة المعطيات والشهادات عن هنري تيبي بين رفقائه في تونس وحلق الوادي من الرجال وكذلك عبر شهادة منشط إذاعة محلية بالقرية التي توفي فيها هنري التيبي سنة 2013 غير أن الشهادة الأكبر ترويها لنا تلك الصور التي وجدها المخرج وصديقه متروكة مبعثرة في اخر بيت سكن فيه هنري تيبي وهو نفس المنزل الذي علمنا من الوثائقي أن بريجيت باردو منحته للفنان هنري تيبي بعد ان اضطر الى مغادرة باريس بسبب القطط والكلاب التي كان يأويها والتي مثلت مصدر إزعاج لجيرانه.
بين هنري التيبي الشخصية المحورية وبين المخرج ياسين الرديسي علاقة يحتاج فيها المخرج الى وسيط منها الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو وشهادات الرفاق وكلها تستدعينا للعبور الى عالم التيبي بين حله وترحاله ولكن بشكل غير مباشر وهو أمر مفهوم بمنطق الفيلم لكن هل كان ذلك كافيا لنفهم جميع جوانب شخصية التيبي؟
حين تغيب تاء الـتأنيث
رغم مساعي المخرج وعدم ادخار أي جهد تبقى جوانب أخرى من شخصية التيبي مظلمة أو يكتنفها بعض الغموض .
فقد كان هنري تيبي بطلا رياضيا في الخمسينات في تنس الطاولة وقد حاز القابا وجوائز في هذا الاختصاص وتشهد على ذلك قاعة الزيتونة بشارع "قمباتا" وقد قضى التيبي سنوات 48 و 49 و 50 متنقلا بين قاعات الرياضة والبطولات والتتويجات وقد تحصل سنة 1950 على كأس تونس منتصرا على Guy Bellaiche وسنة 1952 حين إنتصر على Robert Soriano و 1954 حين إنتصر مع كلود أوزان (لعله نفس مصور الفيديو الذي أعاد هنري تيبي للذاكرة بعد الثورة بفيديو التيبي يغني حلق الوادي ) وهي تفصيلة مهمة لم يتوقف عندها الرديسي.
https://www.youtube.com/watch?v=lFiCg_Xx9L8
عبر هذا الفيديو الذي نشر منذ 12 سنة أعاد التونسيون إكتشاف هنري التيبي
فيلم نرجعلك لياسين الرديسي فيلم خال من شهادات النساء.. وهو أمر نستغربه ونعاتب عليه مخرجا شابا لم ينتبه إلى اهمية شهادات النساء في مثل هذه الروايات ..هل عاش التيبي في عالم رجالي ؟ هل كانت حلق الوادي منطقة محرمة على النساء ؟
لماذا كان حضور المراة نادرا في هذا الوثائقي؟
لماذا تبدو المرأة في ارشيف صور التيبي حاضرة بكثافة في زمن الأبيض والأسود وتختفي من وثائقي الرديسي في زمن الألوان ؟ تبدو الروايات منقوصة من الشهادات حين تغيب المرأة هذا قطعا ولا اعتقد ان هذا التغييب كان متعمدا من قبل المخرج ولكنه يبقى اجتهادا منقوصا كان يمكن أن يجعل الحكاية اكثر اصالة وصدقا وتوازنا.. المرأة الحاضرة في تفاصيل التيبي والغائبة عن وثائقي الرديسي تجعلنا أمام فيلم بذاكرة مبتورة.. ذاكرة تنقصها تاء التأنيث.
شادية خذير