الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مسرحية "على هواك" لتوفيق الجبالي: حكي مسرحي موسيقي حرّ ومنفلت حول الفن والسياسة والمجتمع

نشر في  17 جويلية 2022  (20:20)

تضمنت مسرحيّة "على هواك" للمسرحي توفيق الجبالي والتي افتتحت فعاليات الدورة 56 لمهرجان الحمامات الدولي يوم الاربعاء 13 جويلية 2022 بحضور جماهيري غفير، تضمنت عدّة جمل مفاتيح لعّل أهمها وأكثرها بلاغة تلك التي ابتدعت تعريفا لدور الموسيقى، "الموسيقى كالجنون، شكل من اشكال التبرز على الواقع". وفي هذه المقولة أو بالأحرى الشذرة الفلسفية اشارة الى قدرة الموسيقى على تسفيه الواقع والتحرر منه ومن روابطه السخيفة، وعلى ان ترحل -مثلها مثل الجنون- الى عوالم اخرى منعتقة من ثنايا اليومي وخيباته. وتعطي هذه المقولة فكرة عامة على روح المسرحية التي اتخذت من الموسيقى ومن روحها الثائرة وسيلة لحكي مسرحي حرّ ومنفلت حول المعنى، معنى الحياة والاشياء ودور الفنان في خضم الراهن السياسي والمجتمعي التونسي.

 ومن خلال مجموعة من اللوحات التي اتخذت من الموسيقى وآلاتها خطا ناظما، ضربت "على هواك" موعدا مع مواضيع متأصلة في الواقع التونسي بحيثياته السياسية والاجتماعية وبميزاته اللغوية، وفي نفس الوقت مُتخذة مسافات لمسخرته ولمساءلته و بالأخص لإحياء امكانية التخلص منه.

تتشابك الاحداث في "على هواك" بين مجيء السلطان القانونجي والحوار الوطني والخيمات الدعوية واعتصامات المفروزين امنيا وراعي الغنم الذي قطع رأسه والتحويرات الحكومية ومدرسة الرقاب والشاطبي والقرضاوي. انفجار من الاحداث المتدافعة، المتنافرة التي لا تليق بها الا سوريالية اللغة وتمردها الجامح. فهذه لوحة كوميدية حيكت بروح اندلسية توّجهت فيها الممثلات برسالة الى "حورية زوجي في الجنة"، وهذه لوحة طريفة يقصد فيها ممثل عالم النفس سيقموند فرويد بحثا عن استشارة قانونية حول "هذه العيشة الكلبة"، وهذه لوحة متأملة لفنان هرم وفهم انه "ليس عيبه ان كان الايقاع اعرج". وبين اللوحة والاخرى ترسم الانغام المنبعثة من الآلات الموسيقية ومن وراء الاحجبة فواصل حالمة وناشزة ومرات اخرى مسكونة بمس شيطاني لذيذ.

وفي العمل توق لمقاسمة فلسفة حياة "أحباب البوقرعون" مثلما يسميهم الجبالي من أجل "اعادة الاعتبار للأشياء البسيطة ولجمال الاشياء الاولى والمباشرة التي رحتها ماكينة الهبال الكبير". بجمل بسيطة، يكشف الجبالي شيئا من المعاني التي استخلصها من هذه الحياة موازيا بينها وبين رهافة بتلات البوقرعون وجمالها العابر بعيدا عن الصراعات الواهية وغيرها من السخافات والخرافات المتأصلة في اذهاننا وفي حياتنا اليومية. "لسنا الا عناوين وحدة للوحدة المتفردة على تنوعها" يقول النص في مقام آخر حول وحدة الفرد في وهم المجموعة.

في "على هواك" ايضا مانيفستو حول دور الفنان، فهو الذي "لا يمسك شيئا في يديه، قبضته مرفوعة في الفضاء واصبع الوسطى للحكام وصناع الرأي وغيرهم من مهندسي مقاولات الحياة"، هكذا يراه الجبالي، ثائرا ومتمردا على مختلف السلط أو لا يكون. قد ينزعج البعض من ذلك ويرون فيه مبالغة او حتى اساءة لكن أنصاف المواقف لا تفي بالحاجة وفق الجبالي بل هي نقيض الابداع، هذا ما نستشفه من نص "على هواك"، وما دأب عليه الجبالي في اعماله الأخيرة على غرار "ثلاثين وانا حاير فيك"، "التابعة"، "صفر فاصل"، "مانيفستو السرور"، "الناس الاخرى" و ما سبقها.

تحتاج وانت تشاهد مسرحية "على هواك" ان تلملم اطراف العشرية السياسية الاخيرة وما افرزته من مفارقات وان تساير سوريالية النص وفلتات اللغة العارمة وان تتماهى مع انغام الكونترباس والساكسو والكمان والطرومبيتا وان تقبل بفلسفة التخلي وبالسخرية من كل شيء. مجازفات النص اللغوية، نقدها لليقينيات، تماهيها مع الجنون، كلّها تجبرك على جمع شتات المعنى المنفلت والفائض من الكلمات والتجاذبات والتوظيبات الركحية وسائر المعزوفات. 

ومع كل هذا، و"الربيع الذي ليته لم يأت" بالنظر لما فتحه من ابواب العودة الى الوراء، تنتهي المسرحية بأداء جوق موسيقي مرح وعزف مُتحد للفضاء ولكل الاثقال، فالغلبة تأتي أيضا من الموسيقى والموسيقيين باسم كلّ الفنانين ومحبي الفنّ.

شيراز بن مراد