الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مراجعة رواية "برڨ الليل" للكاتب التونسي البشير خريف: ليت كل إنسان كبرڨ الليل

نشر في  13 أفريل 2022  (21:05)

 بقلم ايمان اينوبلي الغربي

رواية وجدتني مشدوهة ومدهوشة أمامها، أعجز عن وصفها. عمل قصير مفعم بكم هائل من الجمالية والرونق والعذوبة والمشاعر الفياضة التي اكتسته.  سردت ببراعة واتقان كبيرين تجليّا في أسلوب ومنهج البشير خريف الروائي.

 رواية تاريخية، خيالية، غرائبية إلى حد ما وهزلية فكاهية من ناحية أخرى. تدور أحداثها بتونس في القرن السادس عشر، بطلها "برڨ الليل"، ذاك الفتى الزنجي ذو السابعة عشر ربيعا. انتشل من "أدغال إفريقيا" من قبل القراصنة وصار عبدا يشترى ويباع كل مرة ولا يرسي في بر. إنسان ضاحك، مفعم بالحياة، يعمل مع سيده "حامد الخلفاوي" شيخ عالم كرّس حياته للتجارب والبحث. كان بطلنا يعمل في مخبر سيده في مكان وسط الحاضرة وكان يبيت ليلا هناك للإهتمام بأعمال الشيخ. أحس بالضجر وطول الزمن فحاول أن يجعل من محيطه الصغير بالمخبر مكانا للترفيه عن نفسه وجعل من القوارير والجماجم والمعدات آلات وظّفها للهوه فصار ينقر عليها ويعزف ويغني كل ليلة.

 في يوم ما وصلت هذه الألحان والنغمات إلى مسامع إمراة حسناء، تركها زوجها وحيدة حين ذهب للقيام بمناسك الحج، جلبها الفضول وراحت تتبع مصدر الأصوات إلى أن وصلت حيث يقبع "برق الليل" وراحت تسترق النظر اليه كل يوم إلى أن تفطن لها وإنبهر بجمالها ووقع في حبها ولم تعد تفارق خياله. أثّرت عليه إلى حدّ أنه غفل عن أعمال سيده وتجاربه فأفسد محتوى الدكان وحطمّ العديد من الأشياء وكانت الخسائر فادحة فغضب عليه غضبا شديدا وطرده ففر من بطشه وراح هائما، وحيدا.

 في نفس الوقت عاد زوج محبوبته ووقع بينهما خلاف لكذبها عليه في موقف ما فطلقها بالثلاث. من هنا تبدأ مغامرة "برڨ الليل" التي ستجعلنا منبهرين أمام هذا الابداع. تزامن تطور الأحداث مع دخول "خير الدين بربروس" القائد العثماني الذي حلّ بتونس بهدف إنقاذها وحمايتها من براثن الإسبان بعد هروب "الحسن الحفصي" وإستنجاده بهم.

 العبقري في الرواية هو قدرة الروائي على جمع شخوصه بشخصيات تاريخية مرّت عبر الزمن وجعلهم عناصر فاعلة وفعالة في مواقف وأحداث حاسمة عاشتها البلاد التونسية.

 فقد ربطها رباطا وثيقا يجعلك لا تكاد تميز بين الحقيقة والخيال وتجسدّ ذلك خاصة في دور "برڨ الليل" الذي كان فاعلا ومميزا. عوالم روائية بارعة نسجها البشير خريف بحبكة ممتعة وشيقة دلتنا على الطابع الفكاهي والهزلي المرح لقلمه.

 صوّر لقارئه بكل دقة ومهارة تفاصيل صغيرة ودقيقة لشخوصه، أمكنتهم وأزمنتهم وماهم عليه. رحلة لطيفة بين أمكنة وأزقة تونس قديما من الحاضرة إلى حلق الواد والحفصية والقصبة وباب سويقة وسيدي بلحسن الشاذلي..

 وصف كثيف بصبغة فنية، شاعرية حتى أنك تكاد تسمع الموسيقى والطرب ينبثق من بين الأسطر. صور وتشابيه وأساليب بلاغية ومعجم مجازي إتخذهم الكاتب ووظفهم بشكل ضمني حتى لا يكاد أيضا القارئ أن يحصيها.

 إستعمال مفرط ولافت للغة العامية أو بالأحرى "للدارجة التونسية"، وهنا أعرج إلى أن الدارجة برزت على شكل تعابير، عبارات وأقوال قديمة خاصة من الموروث التونسي صعب علي قراءتها بدءا.  فعمله كان عملا تونسيا متكاملا تاريخيا، لغويا وأسلوبيا، إذ يحمل بصمة الهوية التونسية بدون أدنى شك.

 كل شخوص الرواية ذات مشاعر سخيّة رغم مواقفها المتضاربة في بعض الأحيان (شعشوع، الشيخ العالم، المسنة، الحسناء) لكن شخصية "برڨ الليل" شخصية فريدة، شخصية محورية تنبض حياة، مرحا وفرحا وإنعكست صورته في الرواية.

  إنسان ظريف وطريف، ذو مواقف عجيبة، غير متوقعة، تلقائي بدرجة عالية إلى حد أنه يبدو لك ساذجا في بعض الأحيان لكنه في الحقيقة حكيم. . وإنسان سلمي ومسالم، يُعبر عن سخطه لما يعيشه محيطه من عدم إستقرار "موش باهي الحرب ، خلق من واقعه المؤلم الذي لا يمكنه تغييره ولا الخروج منه سعادة، عالما بهيجا، مليئا بالرقص والأنغام والطرب والمزاح والضحك والمرح.

 إبتكر في وحدته وألمه وشعوره بالظلم عالمه الخاص وتجاوز قهره فتجلى في مواقف غريبة ومضحكة ورغم ذلك كانت حاسمة لأنها أخرجته وأخرجت البلاد التونسية من مواقف صعبة.

 حسب رأيي كل هذه الحيوية والموسيقى والرقص من تقاليده وموروثه وجذوره كزنجي كانت متأصلة فيه رغم بعده فانتماؤه الاول حافل بالأناشيد والأصوات الجميلة والرقص والفن الذي جسدّه بطلنا ويتجسد كثيرا في مؤلفات الأفارقة من الكتاب.

 البشير خريف نقد بطريقة ضمنية المجتمع التونسي، في تأثره وعدم إتخاذ قرارات حاسمة، في تشتته في نفاقه الدائم، ريائه وحقائقه، في التحيّل وفي ذبذبته: "تحققوا أنه تونسي في بلاغته في السب "أو"... فيه هذه المرة الزور والوقاحة التونسية.." ينقد الاتجاهات السياسية والاجتماعية، ينقد المجتمع الذكوري ووضعية المرأة آنذاك، ينقد العبودية والعنصرية والاختلاف والتمييز والمجتمع والموروث والتقاليد والمعتقدات البالية.

 أخيرا، شعب بدا يبحث عن هويّة، هذه الهويّة التي وظّفها خريّف في كتاباته المفعمة بالهويّة التونسية. "برڨ الليل" كان وحيدا، شريدا، بلا مأوى، بلا حام، بحث عن نفسه وهويته المسلوبة ووجدها في إبداعه، في خلقه، في فنه، في رقصه وغنائه. رواية أقل ما يمكن أن يقال عنها انها باهرة، رواية عن المشاعر، عن الأحاسيس، البراءة، السلم والسلام، التفاؤل، التجاوز، الإبتكار، الخلق، الإبداع ،المرور قدما وخاصة رواية عن الحب والتسامح والقيم النبيلة و الإنسانية الراقية.. ليت كل إنسان كبرڨ الليل.