الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة فيلم "يا سلطان المدينة" للمنصف ذويب: في قلب المدينة العتيقة، تراتبية اجتماعية جديدة تحكمها المساومات والماورائيات

نشر في  03 مارس 2022  (14:10)

يُصوّر فيلم "يا سلطان المدينة" (1992) للمنصف ذويب واقعا اجتماعيا مغايرا للصورة الرمزية التي يتناقلها المخيال الجماعي التونسي عن المدينة العتيقة ببيوتها ذات الطابع المعماري العربي-الاسلامي وتقاليد متساكنيها من الحضر و"البلديّة"، وهي التي تضم المنارات الدينية ومقامات الاولياء الصالحين  فضلا عن المدارس ومقرات البعثات القنصلية والاسواق والفنادق منذ قرون خلت.

في هذا الفضاء المديني العتيق المشحون برمزية تاريخية تتداخل فيها مسائل مثل الهويّة والانتماء والمعتقدات والتقاليد، شكّل المنصف ذويب المفارقة التي بنى عليها سرديته. اذ يروي الفيلم قصة عائلة تفتك لنفسها بيتا عتيقا تخلى عنه اصحابه الأصليون لتحوّله الى "وكالة" يقطنها بمقابل عدد من ضعاف الحال، منهم بائعة هوى ومُقعد وأب نال منه الهزال.

ومن خلال ربط موضوع فقدان الهويّة الاصليّة للمكان الذي تم اختياره لاحتضان السرد بالواقع الاجتماعي الهش لشخصيات الفيلم، يعلن المخرج عن نواياه الاولى التي يمكن حصرها في فكرة القطيعة التي ستنبني عليها قصة "يا سلطان المدينة"، اولا قطيعة اجتماعية تمس الافراد والفضاء وثانيا قطيعة في المخيال الجمعي المشترك. و بهذه الاختيارات، يبتعد المخرج كل البعد عن منحى الحنين والتمجيد الذي عادة ما تُعالج به مواضيع في علاقة بالمدينة العتيقة ليقدمها في صورة تتكلم بلغة شعبية، فجّة وعنيفة. 

 ورغم المكانة التي يوليها السيناريو لـ"الببّ" (تقمص الدور أحمد بن اسماعيل) كشخصية رئيسية متنفذة ومتحكمة في مفاصل المكان، الا انّ البطولة بدت متجاذبة بين عدد من الشخصيات التي تريد فرض ذاتها في مكان لا مجال فيه للضعف. بين الام (منى نور الدين) التي تحاول فرض سطوتها على المكان وتزويج ابنها من الفتاة رملة (ريم التركي) التي تبقيها سجينة باحدى غرف البيت، وبين "سرجان" (كمال التواتي) الذي يحاول بسط نفوذه على متساكني البيت و"" التي تحاول من خلال ممارسة احد طقوس الشعوذة اخضاع شهوات "الببّ" الجنسية لها وحدها، وغيرهم من الشخصيات التي تحاول فرض وجودها في قساوة المكان. ترتسم اذا في هذا الفضاء المنسلخ عن هوّيته الاولى موازين قوى جديدة وتراتبية اجتماعية تحكمها المساومات والماورائيات فضلا عن لغة القوة ومنطق الفحولة.  

فلمن سلطة الكلمة في هذا الفضاء الفيلمي؟ ولمن القول الاخير؟ ولمن سلطة التحرك بحريّة في البيت وخارجه؟ يدفعنا "سلطان المدينة" لطرح هذه الاسئلة بهدف محاولة فهم هيكلة العلاقات القائمة في هذا المجتمع  الهامشي المصغّر، ولصالح من ترجح الكفة في مختلف المواجهات المطروحة بين الشخصيات. فهل انّ العنف المتبادل مثلا خلال سهرة الاحتفاء بعودة "الببّ" عنف يعبّر عن نزعة انتقامية فقط ام أنّه يعكس موازين القوى بين الاطراف المتنازعة؟ وهل أنّ العنف المسلّط على رملة في آخر الفيلم، عنف غريزي بحت يعكس حيوانية المعتدين ام أنّه يقول ما لا تقوله الصورة من انّ التحرر من هذا الفضاء غير ممكن؟

وقد انتقل الفيلم بخطاب شخصياته المنتمية للفئة المستضعفة من اللامرئية الى الواجهة فعبرت عن مقاصدها الصغيرة وعما يحركها من هواجس ودوافع. كما ابرز بطريقة جليّة كيف ولّدت هذه الفئة خطاب هيمنة وقواعد لعبة جديدة بعد ان صنعت لنفسها فضاء حيويا يقطع مع المحيط الاوسع والذي يظهره ذويب في ثوب الخراب (بيوت مهدّمة، جدران متصدعة، طرق تراكمت فيها الحجارة والأتربة) ولسان حاله يقول انّ صورة المدينة العتيقة الحالمة التي طالما ترسخت في أذهاننا ذهبت دون رجعة.

وتماهيا مع النفس الشعبي المهمّش الذي نقله ذويب طيلة فيلمه، بدت كاميراه يقظة وعصبية يحركّها ايقاع الاجواء المنبعثة من المكان والتي تكتنفها الرغبة في التحكم في مصائر الاخرين والعنف وفجاجة التعامل بين مختلف متساكني البيت العتيق. حتى انّ صحن البيت اضحى شبيها بحلبة الصراع ذات الخيوط الخفية والعلنية والتي يلتقي فيها الجمع لممارسة شحنة اضافية من العداء الاجتماعي ما عدا شخصية "فرج" حامل المصباح والكرامات والذي يتبارك به مرضى الحي ونساؤه ممن خذلتهن الحياة. فرج، هذا الصامت اللطيف الذي يتسلل بين ثنايا المدينة والذي يشكل "خطّ الهروب" من بؤرة التوتر التي يعيش على وقعها متساكنو "الوكالة". يربط فرج علاقة صداقة مع رملة حتى انّه يرافقها يوم تقرر الفرار والانعتاق من سجّانتها غير انّ عالم المدينة اضحى بدون شفقة لتسقط رملة في طريقها الى "حريتها" بين براثن شركاء "الببّ" لينالوا من حرمتها الجسدية وليضعوا حدّا نهائيا لحلمها بالتحرر من سلطة التقاليد.

ينتهي الفيلم بهذا المشهد الموجع الذي يقول كثيرا عن الرؤية القاتمة للمخرج ازاء هذه المدينة التي لم تفقد بريقها فحسب بل فقدت كل مقوّمات انسانيتها. تبدو هنا وجهة نظر صاحب العمل قاطعة وكأنّ جزء من ماضينا امّحى تماما من الوجود. اندثرت المدينة العتيقة بجمالها المعماري وبسكانها الاصليين لا بمنطق التحسر العاطفي بل بضرورة الوعي بواقعها الجديد، هذا الواقع القاس الذي تحكمه هرميّة مستحدثة سمتها الاولى "فيبراتو" علائقي عنيف يصعب النفاد اليه او منه. وقد يكون في عنوان الفيلم "يا سلطان المدينة" استحضار للولي الصالح محرز بن خلف (951 - 1022) الملّقب بسلطان المدينة، -"يا سيدي محرز، يا سلطان المدينة، يا سلطان البلاد" هكذا يُردّد مريدو مقام الولي للاستنجاد به زمن الشدائد- لكي يشهد على ما آلت اليه المدينة من اوضاع، وهو الذي كان من ابرز اعلامها وحُماتها.

تسنت لنا متابعة فيلم "سلطان المدينة" (1992) بعد مرور زهاء 30 سنة عن صدوره على شاشة المكتبة السينمائية في اطار عمل فريق السينماتيك الدؤوب لاحياء الذاكرة السينمائية التونسية واعطاء الفرصة للأجيال الجديدة لاكتشاف الاعمال التي طالها النسيان او انعدمت فرص مشاهدتها على الشاشات الكبيرة على غرار "سجنان" و"العرس" و"راعي النجوم" و"السيّدة" و"ثلاثون" و"خرمة" وغيرها من الاعمال التي أثْرَت المشهد السينمائي التونسي.      

                                       شيراز بن مراد