الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة بقلم نزار باتيس رئيس جمعية مدينة وحكايات مجاز الباب: وللحلم بقية

نشر في  05 سبتمبر 2021  (15:05)

  بقلم: نزار باتيس رئيس جمعية مدينة وحكايات مجاز الباب

 

 وللحلم بقية:
(مجاز الباب 28 اوت 1982 )
هي ذكريات طفل ذات صيف من سنة 1982. بالنسبة لي كان يوما عاديا نحن تقريبا في نهاية العطلة،يعني ان اجواء العودة المدرسية كانت تخيم على أرجاء منزلنا لكن في فترات ما من هذا الصباح الجديد كان والدي على غير العادة كان مضطربا نوعا ما ، علب السيجارة وأعواد الثقاب كانت حاضرة بقوة ...
 
كنت أصغر إخوتي والاكثر قربا من والدي ومن البديهي أنني كنت منتشيا بمرافقته حتى في جلساته وهو الشيخ الزيتوني، كنت شديد الاهتمام بما يتداوله كبار القوم من أحاديث عن البلاد والعباد ...
 
تحت شجرة البرتقال كنت جالسا أترقب لحظة الخروج لملاقاة أترابي ليتقدم مني والدي ليحدثني عن قصة كانت تبدو لي غريبة جدا لم أكن قادرا على فك رموزها ، لانني و بكل بساطة كنت أفهم فقط في علب الشكلاطة وقطع الحلوة وبعض الصور المتحركة والتي أتذكر ساعة بثها اليومي ، كنت أعرف ساعة قدوم بائع الحليب عم محمد بعربته المجرورة الى مشارف المنزل ،كنت أعرف محرز الرجل الضرير الذي يمر بين بعض منازل الحي،الخوف كان ينتابني عند مرور محمد الهادي كرتشوف أطال الله في عمره من امام منزلنا اتذكر كيف كان إحترام هذا الرجل إلى والدي كبيرا جدا ,كنت أعلم أن ضجيج الات النجارة من مصنع عم مصطفى يزعجني في الساعات الاولى من كل يوم ،صفارة عم محمد حارس المدرسة تبقى من أحلى الذكريات تلك السنوات....
 
لكن لم أكن لافهم قضية شعب و اغتصاب ارض عن آلام أمهات عن أوجاع تعاني منها أمة ،ليحدثنى والدي عن أطفال شردوا بدون حق ....لاول مرة أسمعه يتحدث عن الموت و الشهداء عن احياء عند ربهم لكن لم أكن لافهم سبب حديثه هذا ...كنت صامتا احاول فهم كلامه ، أسئلة كثيرة كانت تخامرني ليردف قائلا : يا بني انني احدثك عن فلسطين ... من خلال عبارته فهمت أن العالم مليء بالمعاناة هو أيضا مليئ بالانتصار فمن خلال تقاسيم وجهه فهمت ان التعاطف الإنساني يربطنا ببعضنا ليس بالشفقة، ولكن كبشر من واجبنا تحويل المعاناة المشتركة إلى أمل للمستقبل.
 
فلسطين كلمة كنت أسمعها لكن كطفل لم تكن لي دراية بقصة وتاريخ هذه الارض، لا علم لي بمعناة شعب ، ففي لحظات ما تحدث عن العظماء الذين عرفناهم في حياتنا هم أشخاص عرفوا الهزيمة , عرفوا المعاناة , عرفوا المصاعب , وعرفوا الخسارة , لكن في نفس الوقت عرفوا الطريقة التي يتعاملون فيها مع شعوبهم، تكلم عن رمز المقاومة عن الزعيم عرفات وهنا قاطعته لاعلمه انني اعرفه وأن صورته معلقة باحد جدران المدرسة ثم وبلغة سلسة حدثني عن العرب عن مصر وسوريا عن خيانات عظمى وعن الأمة التي يعرف رجالها كيف يموتون هي الأمة الجديرة بالحياة...
 
في الحقيقة كانت دقائق صعبة جدا لم افهم منها إلا النزر القليل ...يتركني ليترشف قهوة الصباح سيجارته لم تكن غائبة لكن كان مستعجلا نوعا ما ...
 
تمر دقائق ليطلب مني مرافقته الى وسط المدينة ثم اعلمني أن مجازالباب تعيش يوما تاريخيا وان عيون العالم متجهة نحو ربوعنا ...كان سعيدا جدا كيف لا ونحن نستقبل شعب الجبارين... المدينة تحتضن وبكل حب الف فلسطيني هم من قاوموا الاحتلال في فلسطين وفي جنوب لبنان هم غادروا مخيم عين الحلوة على متن الباخرة اليونانية نحو ميناء بنزرت.
 
حوالي منتصف النهار كنت رفقة والدي امام الكنيسة أتذكر وأن الالاف من اهل المدينة خرجوا واصطفوا على كامل الطريق الى حين قدوم الشاحنات العسكرية لتكون أجمل التحيات والهتافات وزغاريد النسوة في انتظار أبطال فلسطين أتذكر من إستسلم لدموعه عند رؤية علم فلسطين يرفرف فوق سماء مجاز الباب ...
 
من لمست اقدامهم ارض المجاز كانوا من الناجين من أبشع المجازر ،تقريبا تسعة عشرة يوما تمر على قدومهم حتى إهتز العالم على خبر قادم من مخيم عين الحلوة بلبنان ، اسرائيل تغلق مداخل المخيم لتمكن كتائب ايلي حبيقة اللبنانية من إرتكاب أبشع الجرائم لتحصد الالاف من أرواح الابرياء العزل لتبقى صبرا وشاتيلا وصمة عار على جبين كل من أجرم في حق الشعب الفلسطيني...
 
تمر سنوات على قدومهم هم سكنوا مخيم عين الحلوة بواد الزرقة ثم كانوا من سكان أغلب احياء المدينة ...من خلال تلك السنوات أباؤنا عرفوا أبو الفواخر الرجل الاشقر ومقر القيادة الذي كان مقره مقهى بن رمضان حاليا أما نحن أطفال ذلك الزمن فقد عرفنا جهاد ونضال والعديد من الاطفال الذين سكنوا حينا ليكون أجمل التعايش بيننا.
 
كل المأسي حدثنا عنها جهاد عن الغارات الاسرائلية التي دمرت منزلهم وقتلت اخته الرضيعة ، هو حدثنا عن --طفل جريح يصرخ لولادة طفل جريح آخر--
 
جهاد كانت لديه أحلامه الصغرى ؛ كأن يصحو من النوم معافين لم يحلم بأشياء عصية، المهم انهم أحياء وباقون على ارض فلسطين وأن تبقى احلامهم بلا نهاية...
 
تمر خمس سنوات ليأتي قرار مغادرة العائلات الفلسطينية للمدينة، كانت لحظات دموع وعناق وحزن لمغادرة ابناء وبنات فلسطين، هنا كانت أروع القصص وعلى ضفاف مجردة التقينا ليمضي الزمان ، ونجد أنفسنا فجأة على مفترق طريق الرحيل عندها غرقت العيون بالدمع لتبقى تذكارا بين الأحبة....
 
أنتهت الدموع.. ذابت الشموع.... سألت وبحثت عن جهاد الطفل ألمقدسي، هو إختار ان يغادر من دون وداع، رحل من دون أن يشعر قلبه برحيليهم ...
 
يمر اسبوع على لحظات الوداع لتعلمني أمي أنها وجدت صورة الطفل الفلسطيني ملقاة في حديقة منزلنا يبدو انه تركها يوم سفره لتبقى من أجمل الذكريات ، ربما هو عاد الى القدس الى مدينة تفوح أنبياء...
 
نحن في سنة 2007 كنت في زيارة الى معهد العالم العربي بباريس ،في دردشة و في حديث عام عن عالمنا العربي يتقدم مني شاب وسيم ويضع يده على كتفي قائلا :
 
كيف حالك حبيبي نزار كيف حال تونس؟ ....في الحقيقة كان خجلي كبيرا جدا خاصة انني لم أتمكن من معرفة هذا الشاب ،لكن وبابتسامة لطيفة يعلمني أن ملامحي لم تتغير كثيرا ،وفي لحظات ما يسحب من محفظته صورة قديمة ويضعها أمامي .....
نظرت بكل دهشة الى هذه الصورة القديمة فكان إحساسي أنني أرتفع عاليا الى السماء .
كانت نفس الصورة التي وجدتها والدتي في حديقة منزلنا منذ أكثر من ثلاثة عقود ...
 
في مدينة الانوار التقيت بجهاد هو الان أستاذ الحضارة الاسلامية في اكبر جامعات باريس .....جهاد كان يسأل عن أرض المجاز عن منزلهم القديم و اطفال الحي عن مدرسته سألني عن أبي و كل من علمه حرفا ....بلكنة فلسطينية جميلة حدثني عن سنوات الفراق عن ثلاثين سنة مرت من حياتنا عن سنوات الألم والمرارة تكلم ، هو لم يكن يستطيع إخفاء دموعه وحزنه من ضياع ارض فلسطين ومن حياة الغربة ....
 
تمر أربع ساعات بين الحي اللاتيني الجميل وضفاف نهر السان مشينا ، كنت أصغي اليه بكل إهتمام الى أن طلبت منه أن نغني معا ما كنا ننشده ونحن أطفال صغار للكبير مارسال خليفة : في البال أغنية يا أخت، عن بلدي
نامي لأكتبها رأيت جسمك محمولا على الزرد
وكان يرشح ألوانا فقلت لهم:
جسمي هناك فسدّوا ساحة البلد
كنَا صغيرين، والأشجار عالية وكنت أجمل من أمي وبلدي ...............
كانت دقائق جميلة جدا، كلمات بقت وشما على أجسادنا زادتها زخات مطر ونسمات باريس الباردة جمالا ، معا غنينا معا انتشينا .....تعاهدنا وتواعدنا أن نلتقي.....
أعود للحديث عن شباب فلسطين ورغم الضيق والخناق وبالرغم من الأنين لم يتركوا علم فلسطين يسقط على الارض، هم علموا أطفالهم شيئا واحد: المقاومة هي الحياة ولا حياة سوى حياة الشهداء....
28 اوت 1982 ومن خلال هذا اليوم الخالد أقول العظمة لجميع الأوطان التي تحدثت بلغة الحب، بلغة الفرح ، بلغة الحياة ، بلغة الأمل.....
العظمة الى ارض المجاز.......
+++++++++
++++++++++
الاهداء :
الى روح استاذي في الجامعة التونسية الاستاذ محمد المحواشي الذي قاتل ورفع اسم تونس عاليا في سماء مزارع شبعا