ثقافة فيلم "المدسطنسي" للمخرج حمزة العوني: مدّ وجزر انساني على مشارف المحمديّة
ينبني فيلم "المدسطنسي" للمخرج حمزة العوني على حركة مدّ وجزر. مدّ الانفراجات التي يهديها ركح المسرح وعوالمه للممثل محرز طاهر، وجزر الانكسارات التي تفرضها عليه مدينة المحمدية وهامشيتها. طيلة الـ 15 سنة التي صوّر فيها حمزة العوني فيلمه الوثائقي الجديد (انطلق التصوير سنة 2005)، ظلّت الصورة على حالها: منفتحة، متأهبة، منتصرة ما ان تطأ ساقي محرز طاهر دار الثقافة بالمحمدية، ومنغلقة، منتكسة، مهزومة ما ان تغادر عالم الركح.
من هذا المدّ والجزر الانساني، صنع حمزة العوني فيلمه. فيلم سيري ينقل صفحات من حياة الممثل المسرحي محزر طاهر اصيل مدينة المحمدية التي يعاني اغلب شبابها من انعدام الفرص، ومن مقاومته اليومية لذاته، للمدينة والسلطة والآخرين. فيلم داكن، مُمسرح، بأضواء قليلة أسوة بشخصيته الرئيسية محرز طاهر، هذا الذي يلاكم الفراغ من أجل أن يعطي لحياته معنى ثم يعود الى النقطة الصفر، هذا الذي يتحرر من جدران المدينة الخانقة ويحلّق حرّا في بعاد الركح ثم يعود الى النقطة الصفر، هذا الذي يتخلص من الكثير حتى يملئ ذاته ثم يعود الى النقطة الصفر.

يصنع هذا الحراك السيزيفي أثر مسيرة متفردة، يُصوّرها حمزة العوني بالاعتماد على كاميرا تنقل تارة أصداء للخلاص وتارة أخرى نصيبا من الاحلام المُجهضة. وفي هذا السياق، سعى المخرج لنقل النبض الداخلي لمحزر طاهر، وما يسكنه من هواجس ورغبات واحباطات بين عالم المدينة المنسية المهمشة التي تغيب عنها الآفاق وبقية الفضاءات الأخرى من بيت وسجن (لا يظهر كفضاء مادي) وطبعا ركح المسرح الذي يضحي متنفسه وفضاء تحرره الجسدي والفكري ولو انّ عين بن علي تصرّ على مزاولة المراقبة من الجدار المقابل لخشبة دار الثقافة بالمحمدية حيث عُلّقت صورة الرئيس الاسبق. لكن لا تهّم رمزية الصورة، ما دامت واقعية الفضاء قائمة.

هذه الفضاءات خاطها حمزة العوني بخيط خشن لا يسمح بتقارب قماشاتها الموسومة ببدائية اللاشيء. كجرح لن يندمل، تبدو حدود هذه الفضاءات متنافرة، كاسرة وليست بالمتماسكة. يتنقل محرز طاهر بينها بحسية عالية وبروح متمردة تنجح في عبور الأمكنة لكنها سرعان ما تنطفىء من جديد، ما تذوي مرّة بعد الأخرى. يظهر مثلا محرز طاهر في أحد المشاهد تائها ومتحررا أعلى تلة جبلية قحطاء، ويظهر في مشهد آخر متماهيا مع هندسة حديدية في الخلاء ثم ملاكما ثم راقصا ثم مندفعا قبل ان ينطبق عليه ليل المدينة الباكي. كلها مشاهد تضمنت مسرحة فائقة أبرزت فردية هذه الشخصية في هذا الكون الصغير وصعوبة تأقلمها في خشونة هذا "الهنا والآن".

الطاقة الجسدية لمحرز طاهر شكلت هي أيضا احدى دعائم ونوابض هذا الشريط المعجون بديناميكية هذا الانسان المدسطنسي، المُستبعد -لحظّه- من المسار الاعتيادي. هذا "الانسان-الجسد" المغاير الذي لا يعترف بما سطّرته الأعراف والمدينة والنظام بل بما يسكنه من طاقة ورغبة ورفض وعدم تماهي مع المكان. تقترب الكاميرا من عرق الوجه، من رقص الجسد، من خيال الرجل، من المارد المتخفي في باطنه حتى ترسم مزيدا من تشكلاته الفنية او النفسية. وفي غيابه، بسبب سجنه لمدّة عام بتهمة استهلاك المخدرات، يواصل العوني التصوير وتحلّ الرسالة التي تُبقي رابطة الجسد حاضرة ومُترقبة لعودة جديدة، لانتزاع بل لافتكاك حق فردي لا لبس عليه. حق الرجل في ان يحقق ما له رغبة فيه، في ان يمارس فنّه، في أن يحب، في ان يستقل بذاته، في ان يكون سخيّا بينما لم ينل شيئا من الآخرين.

في الفيلم أيضا معركة مدّ وجزر بين المخرج والشخصية الرئيسية للفيلم، فلمن يعود الفيلم: هل لواضعه المخرج حمزة العوني ولزاوية نظره ام للشخصية التي شكلت هيكله العظمي؟ وهو موضوع يطرحه العوني ومحرز للنقاش من خلال التجاذب الحاد الذي يشوب علاقتهما في وقت ما. كلاهما من أبناء المحمديّة المحلقين خارج السرب، وكلاهما مسكون برهافة الفن، فكيف يمكن لهذا التقاطع ان يظلّ متماسكا طيلة 15 سنة من التصوير ومن المعارك الذاتية؟
في المدسطنسي، يعيد حمزة العوني الكرّة. كرّة تيمة التهميش كإطار عام والتي سبق أن تعرض لها في فيلمه الوثائقي الأول "الـڤرط"، لكنه يضيف عليها ذلك المنحى التحرري والابداعي الذي تغادر بمقتضاه شخصيته الرئيسية ظرفيتها الأولى لتبتكر إمكانية حياة أخرى. حياة متحررة ومسكونة بالخشونة في نفس الوقت.
شيراز بن مراد
*تحصل فيلم "المدسطنسي" للمخرج حمزة العوني على تنويه خاص من لجنة التحكيم الدولية للدورة 51 للمهرجان الدولي للأفلام الوثائقية (ٍVisions du Réel) بسويسرا والذي انتظمت فعالياته من 17 أفريل الى 2 ماي 2020.