الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة سلّط الضوء على سقوط قرطاج ثمّ نهوضها مرورا بتاريخٍ تليدٍ منسيّ: الباحث أنيس المدّب ينفض الغبار عن الموروث الموسيقي القديم في تونس

نشر في  30 نوفمبر 2020  (11:04)

سقوط قرطاج وعودة "نهوضها" ودور العائلة السيفيرية

مساءلة تاريخ الموسيقى في تونس

مصادر تاريخية وفنّية وفلسفية وأدبيّة تنفض الغبار عن الموروث الموسيقي القديم في تونس

أكبر مسرح مغطّى امتلكته تونس

حملات شُنّت لإخراس الصوت الموسيقي القرطاجني: الموسيقى من  رجس الشيطان !

"سانت أوغستان" وعشق الموسيقى وطرفة طلب المغفرة

"هيرودوت" وحديث عن زغاريد نسوة الساحل...

"ترتليانوس" ووجوب تخليص "الأتباع" من شرّ الموسيقى

علاقة الموسيقى  بالمجتمع التونسي ومدى ارتباطها بالدين وسرّ هالة التقديس التي حامت حولها في الفترة الرومانية...

خلال لقاء فكري نظّمه قسم الفنون بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بـ"بيت الحكمة"، انسكبت هذه العناوين من بحر محاضرة قدّمها الباحث المختص في أركيولوجيا الموسيقى الدكتور أنيس المؤدّب للحديث عن معطيات هامّة وقيّمة حول موضوع الفنون في تونس خلال التاريخ القديم، الموسيقى نموذجا وهي مرحلة هامة في التاريخ الموسيقي في تونس...

في بداية المحاضرة تطرق الدكتور أنيس المؤدب الى التعريف بالفنون في تونس خلال الفترة ما قبل الإسلامية وهي تلك التي يصطلح عليها بالتاريخ القديم، والممتدة من الألفية الأولى قبل الميلاد إلى منتصف القرن السابع ميلادي وفيها عرفت البلاد مكانة حضارية متميزة استمدت مقوّماتها من تجارب السكان المحليين الأمازيغ والعناصر الفينيقية المشرقية.

كما تبلورت بتشكل الدولة القرطاجية البونية على أرضها وبروزها منذ منتصف القرن السادس قبل الميلاد كقوّة اقتصادية وعسكرية وسياسية دعمت حضورها على كامل أرجاء الحوض الغربي للمتوسّط وأصبغت عليه ملمحا مشتركا...

سقوط قرطاج وعودة بروز تونس

وهنا استرجع المحاضر فترة سقوط قرطاج سنة 146 قبل الميلاد على يد الرومان والتي اعتبر أن هذا السقوك لم يكن في الحقيقة إلا مرحلة نكسة وجيزة، اذ انطلاقا من القرن الثاني ميلادي عادت تونس للبروز على الساحة الدولية عن طريق مواطنيها الأفارقة علما وانّ تسمية الافارقة كان قد أطلقها الرومان على السكان المحليين والذين تمكنوا في مدة قصيرة نسبيا من تملّك المظاهر الحضارية الرومانية واتقان لعبتها السياسية فتولوا زمام السلطة بروما ذاتها وذلك عبر العائلة "السيفيرية" وهي عائلة ذات اصول افريقية التي تربعت على العرش الرومان مدة عقود...

هكذا أصبحت قرطاج منذ نهاية القرن الرابع منارة الحضارات اللاتينية

وأضاف الدكتور في مداخلته أن البلاد تمكنت في تلك الفترة بفضل مدارسها من توفير عقول مفكرة كان لها دور أساسي في التأصيل للثقافة اللاتينية وكانت المهد الأول لنشأة جل الشعائر الدينية المسيحية الكنسية الرومانية وانبثاق الأدب المسيحي اللاتيني بل إنّ قرطاج صارت منذ نهاية القرن الرابع منارة الحضارات اللاتينية بعد ان تراجعت روما عن دورها القيادي تحت تأثير تهديدات قبائل أوروبا الشرقية.

وأكد الدكتور المؤدب بأنّ تونس استطاعت أن تحافظ فيما بعد تحديدا خلال زمن الوندال ثم البيزنطيين على طابعها المتمدّن المتحضّر وأن تتهيّأ بذلك لاستيعاب الحضارة العربية الاسلامية وان تكون مركزا لإشعاعها في منطقة المغرب.

في المقابل استنكر المتحدّث عدم استرجاع واستثمار ثمار ذلك  الماضي التليد في حاضرنا قائلا "يبدو وكأنه حكرا فقط على المختصين في التاريخ القديم ولا ينتمي في ذهنية التونسيين لتونسيتهم ولا يمثّل عنصرا من مكوّنات ذاكرتهم الجماعية، بل ورغم ثقل حضور ذلك الماضي في الحاضر بما خلّفه من معالم مشيّدة وأسس مدن لازلنا نقطنها وتخطيط لزراعات" ورثناها والى اليوم نجني ثمارها فإنه من النادر أن يلتجأ اليه كمخزون لاستلهام الأفكار واعادة إنتاجها وصياغة نماذج منها"...

وفسّر الباحث يقول إنه "ودون الحاجة إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء غياب ذلك الماضي أو تغييبه فإن الحاجة الآنية تفرض تقريبه لورثته ومصالحتهم معه لاستشراف مستقبل لا يستمد مقوماته من رؤى منغلقة تدّعي الوثوقية والثبوتية، بل من خلال نظرة شمولية... ولتحقيق هذا الهدف او بالأحرى المساهمة فيه كان اختيار التباحث في التعبيرات الفنية لتلك الحقب الغابرة كوسيلة لاعادة تمثل الثقافة ما قبل الاسلامية والتعمق في فهمها".

هالة من الغموض تحفّ الموسيقى قبل التاريخ؟

وبالعودة إلى موضوع الموسيقى قبل التاريخ، اعتبر الأستاذ المؤدّب بأنّ الموسيقى الرائجة آنذاك أي في التاريخ القديم يحفها الغموض نظرا لنقص المباحث حولها إلى حد اكتفت فيه أغلب الدراسات بإعادة صورة نمطية عنها وعن التراث الموسيقي التونسي معتبرة إياه إرثا عربيا إسلاميا تم استيراده من المشرق أو من الأندلس أو من العثمانيين مغيبة في أغلب الاحيان مرجعياته المحلية "الشمال الافريقية الضاربة في القدم" ومهملة بذلك جزءً كبيرا من خصوصياته...

مساءلة تاريخ الموسيقى في تونس

وأسهب أنيس المؤدب في الحديث عن تاريخ الموسيقى في تونس واستعراض المقاربات والمناهج المستعملة في الغرض من خلال رصد مختلف انواع المصادر التي تمكن من تحديد الملامح الموسيقية خلال التاريخ القديم...

وأكد أنّ الدراسات المتعلقة بالموسيقات القديمة تؤول إلى اختصاص يعرف بعلم الآثار الموسيقي بوصفه مبحثا مهتما "بالكشف عن الآلات الموسيقية واستعمالاتها"، فمن الطبيعي أن تترجم تلك الآلات وفنون استعمالاتها طبيعة التراث في بعديه المادي واللاّمادي.

المعطيات المتوفرة حول الموسيقى بتونس في فترة التاريخ القديم

واعتمد الأستاذ المؤدّب المصادر التاريخية والفلسفية والأدبيّة لنفض الغبار عن الموروث الموسيقي القديم في تونس ، ومن بين هذه المرجعيات المخلفات الأثرية التي تعود الى الفترة البونية والرومانية الى جانب المصادر المكتوبة خاصة في الفترة الرومانية وتحتوي على معلومات غزيرة حول الموسيقى خلال الفترة الرومانية التي  تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد الى القرن الخامس ميلادي (حوالي الف سنة)...

هذه المخلّفات الأثرية التي ساهمت بشكل كبير في توضيح جوانب تاريخية متعلقة بالنشاطات والجوانب الموسيقية سواءً ارتبطت بالطقوس أو بالمعتقدات أو بالميادين العسكرية أو الفنية التعبيرية الركحية. كما عملت على التعريف بالالات الموسيقية ومناسبات عرضها والفضاءات التي خصصت لها...

ومن الآلات الموسيقية القديمة التي تملكها تونس وهي موجودة في بعض المتاحف الوطنية وهي عينات أصلية عثر عليها ضمن الأثاث الجنائزي لقبور بونية تعود الى ما بين القرن 5 والرابع قبل الميلاد أهمها "الكوسات والأجراس"... 

الوثائق الإيقنوغرافية

ومقابل ندرة العثور على عينات أصلية للآلات الموسيقية، أكد الباحث أنّ الوثائق الايقنوغرافية المشخصة لها تعد بالمئات حيث شخصت العديد من الدمى الفخارية التي عُثر عليها في مواقع بونية شخصيات جسّدت عازفات الدف وعازفات المسمار المزدوج فضلا عن الألواح العاجية التي عثر عليها في قرطاج والتي نحتت عليها رسومات غائرة تعود لشخصيات موسيقية...

هذا  فضلا عن تماثيل وطلاسم وجدت أغلبها في قبور أثرية، وقد أضيفت الى هذه الوثائق الايقنوغرافية في الفترة الرومانية تماثيل أو منحوتات كبيرة مثل "مذبح الامبراطور أغسطس"... هذا الى جانب الفسيفساء التي تظهر فيها الالات الموسيقية في تمثّلات ميثيولوجية..

 

كما تحدّث المحاضر عن أهم الوثائق النقائشية  التي حاكت تاريخ الموسيقى في تونس، وهي وثيقة بونية كانت مثبتة على معبد "صفن بعل" في قرطاج وعثر عليها بمرسيليا وتحمل تعريفتها اسمها. وقد تضمن ما بين سطورها ما يتوجب دفعه لـ"المزرخ" وهو طريقة دينية تقيم طقوسا احتفالية في شكل وليمة او مأدبة يحضرها أصحاب الطريقة تحت إشراف كاهن ويتولون تأثيث تلك الجلسات موسيقيا...

مسرح أديون... أكبر مسرح مغطّى امتلكته تونس

وهنا تطرّق الدكتور أنيس المؤدب إلى امتلاك تونس للعديد من المسارح الأثرية عُدّت بـ 53 مسرحا من بينها قرطاج، دقّة، اوذنة، سنفور، هنشير لنقر، سبيطلة، القصرين...

وتوقّف عند امتلاك تونس لأكبر مسرح مغطى في العالم الروماني "أُديون" وقد شيّد بأمر من الامبراطور سيبتيموس سيفيروس في القرن الثالث لإحياء ألعاب بيثيا وقد تم الكشف عن أنقاضه ضمن حفريات أثرية عثر عليها في بداية القرن 20.

وهو تقريبا في نفس مساحة مسرح قرطاج،  لكن كل ما تبقى منه هو مجرد قاعدة بقايا زخارف اعمدة تيجان وتماثيل تشهد بفخامته وتجعل منه المعلومات المتوفرة حول سعة حجمه أكبر فضاء مغلق ومخصص للاستماع الموسيقي في العهد القديم.

 

المصادر المكتوبة... المؤلفات الاغريقية واللاتينية

وعن المؤلفات الاغريقية واللاتينية التي بلورت الموروث الموسيقي القديم في تونس، أكد المتحدّث أنّ المؤلفات الاغريقية واللاتينية تركت العديد من شذرات المعلومات التي بلورت إمّا سياق أحداث تاريخية أو وصفا لعادات السكان...

ومن أقدم هذه المراجع ما جاء على لسان المؤرخ الإغريقي اليوناني "هيرودوت" (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد)  حول صناعة آلة الليرة لدى اللوبيين، وحديث عن زغاريد نسوة الساحل...

إلى جانب العديد من المعلومات التي أوردها المؤرخون حول الموسيقى في الفترة البونية من بينها ما جاء عن القائد القرطاجني حنبعل وكيفية استخدامه للإشارات الموسيقية في حروبه في إيطاليا... 

كما توقّف الباحث أنيس المؤدب عن المعطيات التي وردت في مؤلفات الأفارقة أهمها أبوليوس وكتاباته التي تحتوي على معلومات ومشاهد موسيقية: "أبولوجيا والحمار الذهبي وفلوريدا" وهنا نذكر بأن أبوليوس اعتبر رمزا للمثقف الإفريقي في ذلك العصر علما وأنه ألقى محاضرة بمسرح قرطاج تحدّث فيها عن فترة الاستشفاء بالمياه الفارسية، أي حمّام الأنف...

الحملات التي شُنّت من أجل إخراس الصوت الموسيقي القرطاجني: الموسيقى من  رجس الشيطان !

كما أسهب المتحدّث عن الحديث حول الحملات التي شُنّت من أجل إخراس الصوت الموسيقي القرطاجني، ويعتبر ترتليانوس من بين المنظرين المسيحيين الافارقة الذين أشعلوا فتيل هذه الحملات ضد الموسيقى ومحترفي الفنون بدعوى وثوق صلتها بالوثنية ووجوب تخليص "الأتباع" من تأثيرها وهو ما يؤكد مدى ارتباط الموسيقى بالخلفيات العقائدية المتغلغلة في اللاوعي الجمعي للمحليين.

 ولعل من أبرز الكتب التي ألّفها ترتليانوس في الغرض كتاب "العروض/De spectaculis" الذي اعتبر فيه أنّ كل ماهو فرجوي ويهدف لحضور الجمهور هو عمل "من رجس الشيطان"  لكن في المقابل قدم الكتاب العديد من التفاصيل عن الموسيقيين والراقصين والراقصات وعلاقة المجتمع التونسي وعبادتهم للنجوم... 

سانت أوغستان وعشق الموسيقى وطرفة طلب المغفرة

فضلا عن الكاتب والفيلسوف والمفكر المسيحي أوغسطينوس سانت أوغستان والذي ترك الآلاف من الصفحات بدءً من اعترافاته التي أسهب فيها عن الموسيقى، الى جانب كتابه "الموسيقى" وتباحث فيه حول الايقاعات الشعرية خلال فترته. وهو يعد أول من قدم تصنيفا للآلات الموسيقية.

وأسترجع  المحاضر خلال هذا الحديث طرفة تعود لأوغسطينوس أوردها في مذكراته تتعلّق بكشفه بأنه كان يسمح للغناء في الكنيسة لاستجلاب الوثنيين لأنه لاحظ أنهم كانو يأتون كل يوم أحد للكنائس للاستماع للموسيقى لا لممارسة الطقوس الدينية. وكان يقول في اعترافاته "ربي اغفر لي إعجابي بالموسيقى".

أما  الكاتب والمنظر الافريقي مارتيانوس كابيلا فقد ألّف "حفل زفاف فيلولوجيا ومركور- De nuptiis Philologiae et Mercurii"، وتعتبر مؤلفته من اأم المؤلفات المعتمدة في القرون الوسطى إلى غاية القرن 15 وذلك لتفصيله العلوم في عصره وتحدث في كتابه الاخير منه عن الموسيقى وعن النظرية الموسيقية في القرن الخامس بقرطاج.

وفي ختام محاضرته أكّد الباحث أنّ أهم النتائج التي تمّ التوصّل إليها حاليا تسمح ببلورة رؤية  تؤكد تجذر الفعل الموسيقي والثقافة الموسيقية بالبلاد ولعلّ أولى سمات هذه الرؤية ارتباط الموسيقى بالأبعاد الدينية والتي بلغت عند البونيين حدود التقديس فمثّلت الوجه الملموس للبعد العقائدي والوثني والتوحيدي في الفترة الرومانية...

متابعة: منارة تليجاني